بإعلان جماعة العسكر دخولهم المعترك السياسي من أوسع أبوابه مباشرة (ربما منذ حركة يوليو 1952) بتفويضهم للجنرال المشير السيسي للترشح لرئاسة الجمهورية، لا يسعنا هنا إلا أن نتصور ملامح تلك الجمهورية التي تبدو منتظرة لقدوم جنرال يملك كل أجهزة الدولة الرسمية وغير الرسمية تقريباً إضافة إلى دعم زمرة رجال الطبقة الرأسمالية غير المحدود، ويجسّد آمال عدة قوى داخلية وخارجية لإعادة البلاد إلى مسار حادت عنه خلال تقلبات أعوام ثلاثة مضت. ربما كان السؤال الأكثر واقعية الآن هو: من يا تُرى سيكون صاحب مركز الوصيف في الانتخابات المقبلة؟!
* * *
جنرال الضربة القاضية
من خلال تأمل الصورة التي رسمتْها ماكينات الإعلام الرسمي والخاص للسيسي بعد عزله لمرسي، يمكننا أن نرى بوضوح بزوغ هالة الرجل القوى الذي تدخّل وغامر في لحظة فارقة في تاريخ الوطن مسترداً إياه من احتلال همجي واضعاً رقبته تحت مقصلة المجهول (في حالة فشل حركته) فكان لا بد أن يتلقى الثناء بـ" تسلم الأيادي"!
علينا أن نتأمل هذه الصورة جيداً اذا أردنا تبصر ما ستكون عليه جمهورية الجنرال ببزة رسمية وربطة عنق، من المؤكد أن الرجل سيكمل الطريق الذي بدأه بمطاردة فلول الإخوان (أو ما تبقى منهم) في الداخل والخارج إضافة إلى بعض مؤيديهم والمتحالفين معهم، ولا مانع من توسيع نطاق المطاردات ليشمل آخرين، فالمرحلة لا تحتمل التهاون، و"المعركة" أعظم من أن يعلو صوت فوق صوتها. لم يعد الكلام عن فرص للتصالح أو التوافق ذا معنى على الإطلاق وكل طرف متشبث بموقفه ويزعم أن لديه "الشرعية" سواء كانت شرعية " صناديق" من ناحية أو شرعية "جماهير" من ناحية أخرى، وصلَ كلٌّ من الطرفين إلى حد متطرف في استقطاب الآخر ففي مقابل خطاب جماعة الإخوان تجاه "الانقلابين الدمويين" وحلفائهم يتقاطع خطاب جماعة العسكر في التعاطي مع "الإرهابيين المخربين" وحلفائهم. في خضم هذا المشهد يقف السيسي كجنرال على أعتاب إحراز نصر في أرض معركة تكاد تكون محسومة لصالحه، فقط تنقصه ضربة قاضية!
ضربة قاضية لن يحتاجها السيسي فقط لتثبيت أقدامه كحاكم للمحروسة، بل وأيضاً قد تكون فرصة ذهبية وأخيرة لاستئصال جماعة "الإخوان" من جذورها إلى الأبد، على مستوى التنظيم السياسي للجماعة على الأقل ليكتب خاتمة لفصل بدأه سلفه عبدالناصر في خمسينيات القرن المنصرم، وهذه المرة بدعم قوى خارجية معادية للإخوان كخطر يهدد ممالكها على رأسهم حكام آل سعود بشبه الجزيرة العربية.
يصعد إلى السطح سؤال متكرر: ترى هل سيهنئ السيسي وجماعة "العسكر" بفترة حكم خالية من المنغصات أم أن مجموعة التفجيرات التي حدثت مؤخراً فضلاً عما يجري منذ شهور في سيناء بروفة لما قد يحدث؟!
السيسي والحنين إلى عبدالناصر
ربما لم يحدث في تاريخ مصر الحديث أن صعدت شخصية بمثل هذه السرعة التي صعد بها السيسي لدى جماهير الشعب وهو ليس بعد حاكماً رسمياً. ان دراسة أية ظاهرة اجتماعية يكون بدراسة أسباب تشكلها. وإذا اعتبرنا صعود السيسي كظاهرة اجتماعية سياسية فعلينا أن نسأل أنفسنا: كيف حدث ذلك ولماذا؟
في تفسير كيفية الحدوث، أنه نتيجة لتدخل جماعة العسكر وانحيازها لمطالب من نزلوا في 30 يونيه وقرارهم بعزل مرسي بقيادة المشير السيسي في استجابة لمطالب الملايين الذين رددوا في ميادين المحروسة يومها "انزل يا سيسي، مرسي مش رئيسي" ، لماذا حدثت؟
في الإجابة على هذا السؤال لن يكفي القول بسبب أنه أنهى حكم الإخوان الذي استمر لمدة عام فقط بعد ما يزيد عن محاولات ثمانية عقود للوصول للحكم، ينبغي النظر للصورة من منظور أكبر، فمكانة الجيش تحديداً في الوعي الجمعي للمصريين باعتباره حامي حمى الديار المصرية وآخر المؤسسات المتبقية في الدولة المصرية لعبت دوراً كبيراً في بزوغ نجم السيسي، أضف إلى ذلك افتقاد الجماهير لقيادة حقيقية ما بعد انتفاضة يناير، تحديداً قيادة مدنية، مما أعطى مجال لماكينات إعلام الدولة والقنوات المملوكة لفئة من الرأسماليين في التنظير لحاجة البلاد لرئيس قوي ذي خلفية عسكرية وتم استحضار الحقبة الناصرية بخطابها وإنجازاتها وأمجادها خصوصاً فيما يتعلق بعلاقة ناصر بالإخوان، فلم يكن مستغرباً إذن ترديد بعض المتظاهرين ضد نظام حكم مرسي عبارات من نوعية " عبدالناصر قالها زمان، الإخوان ملهمش أمان" ثم بعد عزل مرسي، تلك الحملة الممنهجة بتشبيه السيسي بعبدالناصر، والعدد المهول للبوسترات التي ملأت الشوارع لصورة السيسي مع الزعيم الراحل مع عبارة " ناصر هذا الزمان"، ليس هذا فحسب، بل تم استحضار أغاني عبد الحليم الممجدة للنظام الناصري، الصورة صورة ناصر، والخطاب خطاب ناصري بامتياز فيما يتعلق باستعادة الكرامة المفقودة ومصر التي ستعود قوية فتية " وهتبقى أد الدنيا" كما كانت أيام ناصر، على يد السيسي هذه المرة!
مستقبل العلاقات المدنية العسكرية
بدخول جماعة العسكر كطرف فاعل في السياسة المصرية لأول مرة بعد أن كانت تحكم عن بعد طوال ستة عقود فائتة، يصعب التكهن بشكل أي علاقة بين العسكريين والمدنيين في المرحلة القادمة، وما هو حجم الدور الذى سيلعبه القادة العسكريون في الحياة المدنية مستقبلاً، هل ستكرر التجربة الناصرية مرة أخرى في تسلل قيادات عسكرية لمعظم المناصب المدنية ؟ أم سيحكم السيسي برداء مدني خالص تاركاً وراءه بزته العسكرية بنياشينها وميداليتها اللامعة؟
لولا أن جماعة العسكر تسيطر على ما يقرب من ثلث الاقتصاد الوطني لكانت الإجابة بالتأكيد أسهل في معرفة مقدار تدخلها في الشأن السياسي ، فالأمر للسيسي ليس بميداليات بدلته البراقة وحدها ولكن أيضاً بحماية مصالح من فوضوه للترشح رئيساً ممثلاً لجماعتهم التي إلى جانب سيطرتها على حصة ليست بالقليلة من اقتصاد البلاد ، تسيطر أيضاً على معظم أجهزة الدولة وتحظى دعم إعلامييها بالإضافة إلى دعم شعبي واسع النطاق. لذا فالسؤال هنا ليس مقدار تدخل العسكر في الحياة المدنية، بل مقدار وحجم الدور الذي يمكن أن يلعبه المدنيون أنفسهم في جمهورية السيسي؟
للإجابة على السؤال نعود للسؤال الذى طرحناه في البداية: من سيكون الوصيف في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ بغض النظر عن أي أسماء على الساحة حالياً فان نسبة الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها (في ظل انتخابات نزيهة) قد تشكل جبهة قوية قادرة على مراقبة ممارسة السيسي لسلطاته ومواجهة أي تغول محتمل للعسكريين في السلطة، هذا بافتراض أن الوصيف سيكون مدنياً!
ملحوظة أخيرة: المقال يفترض عما سيكون عليه شكل الدولة إذا ما تقلد المشير السيسي مقاليد الأمور رسمياً، وحتى هذه اللحظة لم يُعلن عن موعد الانتخابات الرئاسية ولم يرشح السيسي نفسه بعد رسمياً لهذه الانتخابات، وقد لا يفوز فيها إذا ما تمت وخاضها المشير، لذا كل الاحتمالات واردة وهذا ما كان، في انتظار ما سيكون!